يمد يده إلى جســد الكتاب كما يمد يده إلى جسد غنيمة ، يقلبه بين يديه ، يمرر صفحاته بين أصابعه ، يقرأ سطرا ، سطرين ، ثلاثة سطور . وينظر في وجه صاحب المكتبة ، يتقدم إليه والكتاب بيده ككنز ثمين ، يسأله عن السعر ، يجيبه صاحب المكتبة ، يشعر بشيء من إحباط ، يشكره ويعيد الكتاب إلى موضعه وقد علت حنجرته غصة ، لكنه يواسي نفسه بأن بداية الشهر ليست بعيدة وعندها سوف يقبض راتبه وأول شيء يفعله هو أن يتجه على الفور إلى هذه المكتبة لاقتناء الكتاب . في بداية الشهر يتناول راتبه وذهنه شارد في الكتاب ، يهرول نحو المكتبة ويمد يده إلى الكتاب ، يتقدم من صاحب المكتبة وينقده القيمة . للتو يشعر بفرح غامر ، لقد أصبح الكتاب ملكا شخصيا له ، يمكن أن يضمه إلى مكتبته العامرة التي بناها كتابا كتابا ، شهرا شهرا ، المكتبة التي طالما أنقذته من أمواج اليأس التي كانت تجتاحه خلال كل سنوات العزلة والوحدة ، كان يلجأ وهو في ذروة اليأس إلى صيدلية مكتبته فيمضي ساعات حتى ينسى نفسه ويخف عنه اليأس ، وكم من مرة أنقذته المكتبة من الانتحار ، من الشعور العميق بالعدم ، كانت دوما تخفف عنه آلام الروح وتقدم له العزاء , وتقدم له المسرة إلى درجة أنه أحيانا كان يرقص طربا وهو يقرأ ويستمع الموسيقى في هذه المكتبة المغلقة .
هاهو يخرج من مكتبة المدينة والعالم لايتسع حبوره بهذا الظفر الثمين ، وقبل أن يصل البيت يعرج إلى مطعم فيأخذ طعاما شهيا ، ثم يأخذ شرابا لذيذا حتى يحتفي بهذا الكنز الثمين الذي استطاع أن يحصل عليه . في الطريق إلى البيت وهو في سيارة الأجرة يضع كل مابيديه جانبا ولايفوته أن يتأمل مرة أخرى ظاهر هذا الكتاب ، يتأمل عملية إخراجه ، ينظر في اللوحة واسم راسمها ، ينظر في عدد الصفحات ، ثم يلقي نظرات شوق فائضة إلى أجساد الكلمات فتتحول أمام ناظريه إلى حياة كاملة ، وعندها يرى بلبلا يحط على شجرة خريف وهو ينظر في حرف / أ / ثم يرى هذا عصفورين ميتين جوار حفرة وهو ينظر في حرف / ص ٍ / وتتحول الكلمات إلى مناظر والسطور إلى دروب والجمل إلى بحار وأودية وجبال . يعود إلى حيث يجلس عندما يشير إليه السائق بأنه وصل البيت ، يناوله الأجر ويدخل البيت ، يتناول طعامه وشرابه ويأخذ قسطا من الراحة فتتهيأ كل ذرة فيه نحو تلقي صفحات أولية بمتعة بالغة . إنه يحافظ على حميمية العلاقة بين ذراته وذرات النص ، بين حواسه وحواس النص ، يتناول صفحات معدودة وينصرف إلى شأن آخر ، في اليوم التالي يأتي إلى صفحات أخرى ، يغير أو قات تلقي النص، في الصباح الباكر قبل ذهابه العمل بساعة ، في وقت قيلولة الظهيرة ، قبل النوم ، في وقت النوم والسهر حتى الشفق ، وينام معه الكتاب في الفراش ، يستيقظ معه صباحا ، يتحول إلى الزوجة تارة ، يتحول إلى الأولاد تارة أخرى ، إلى موائد سهر عامرة بالأصدقاء ، إلى مستقبل . تشرق عليه شمس النص ، ويهبط عليه ظلامه وهو يشعر بلذة روحية بالغة وهو يتناول الحروف والنقاط وعلامات الترقيم والإشارات والسطور والجمل ، تشرق روحه أمام إشراق النص البهي ويتذكر تلك النصوص التي لم يستطع الوصول إلى صفحاتها العشر الأولى بسبب فقدانها لأي نكهة أو لذة تشجعه للاستمرار، خوائها من أي ومضة إشراق ، أو لحظة حياة ، من عصفور أو حمامة أو جدول أو سمكة . وعندها يكيل عباراته الخاصة التي حفظها لكاتب هذا النص ويقسم ألا ّ يقرب من اسمه حتى لو رآه في صحيفة عابرة .
هاهو النص الثري الذي يضيء ويظلم العالم ، الذي يزلزل الحواس ، ينعش الروح ، ويُجري الدموع من العينين ، النص الذي يجعله يقهقه بأعلى صوته ، يصمت بأعلى صمته ، يخشع بأعلى خشوعه ، هاهو النص البهي الذي يبدل أحول النفس كما يبدل الزمن فصول السنة .
إنه فنان يعرف كيف يقود الكلمات إلى الأراضي الخصبة والينابيع العذبة الرقراقة كما يفعل الراعي الماهر ، يعرف كيف يمد يديه إلى ثدي الكلمات ليستخرج حليبها ولبنها وزبدتها وقشدتها ويقدمها في أطباق شهية . ياله من فنان ماهر هذا الذي أبدع هذا النص المذهل ، لابد للمرء أن يقتني أي شيء يراه لهذا الكاتب حتى لوكان في صحيفة عابرة .
ينتهي من القراءة الأولى ، ثم يختلي بنفسه يتأمل في كل مابثه إليه النص ، ويعود إليه كرة أخرى . يفرغ من السطوع الثاني الذي يكتشف في محرابه مالم يكتشف في السطوع الأول ، ويخرج من محراب الكلمات ، ينتظر حينا . ثم ينظر في أمر إعطاء هذا النص الثري حقه من النقد . يرتدي ثياب العوم في منتصف الليل ويقذف بجسده في مياه النص ويغوص في أعماق مياهه العذبة ، ثم يخرج ويعكر المياه , ويغوص فيها وهي عكرة ، ثم يخرج ويغوص فيها وهي راكدة ، ثم يخرج فيغوص فيها وهي صاخبة هائجة .
إنه مع كل سباحة وغوص في لون وشكل يستخرج ما لم يستخرجه من قبل ، ويأتي بصيده الثمين بعد كل هذه المراحل ، يشعر من جديد بأنه انفتح على النص مرة أخرى وانفتح النص عليه مرة أخرى . ينظر في قلمه وفي الصفحة البيضاء ويباشر في عمله .