الساعة السابعة والنصف من صبيحة يوم السبت كان جابر خلف الموظف لدى مديرية الأوقات الضائعة يهم بالخروج مع دراجته الهوائية ماسكا بيد مقودها وبالأخرى مديرا الباب خلفه ,هجم عليه ثلاثة أخوة من البيت المجاور له , فأدرك جابر أنهم كانوا في انتظار خروجه , لم يدعوا له فرصة لقول كلمة , ولا لوضع الدراجة على وقافتها , وفي غمضة عين وأخرى انهالت عليه لكمات كرصاص مجهول فارتمى مستسلما للأقدام التي تدوس عليه وتركله بعدوانية 0 مع مواصلة اللكمات التي تسدد على انحاء جسده دون تمييز , أبرز أحدهم / مشرطا / كذاك الذي لدى الحلاقين وصوبه نحو أنف جابر , لكن جابر ومع الرعب الذي اعتراه من تصويب المشرط نحو أنفه انفجر بصراخ غريب يشبه عواء ذئب , كان الصراخ غريبا على الأسماع فشعر الأخوة بفزع وتراجعوا عن جابر المرمي على الأرض والذي يصدر منه صوت خافت غريب حتى اعتقد الأخوة بأنه تحول من إنسان إلى مخلوق آخر , أو أن مخلوقا آخر كان يسكنه فمات جابر من إثر اللكمات وظهر فيه ذاك المخلوق الذي يصدر صوتا لايشبه صوت إنسان , عندها لاحظ الأخوة أن الجيران خرجو على صراخه الأول الذي أفزعهم فلم يتردد أحد الأخوة من إظهار سكين وتهديد الذي يقترب من الجيران لانقاذ جابر منهم , وقالوا بصوت جماعي بأن لهم ثأرا عند هذا المارد ولن يتركوه قبل أن يثأروا منه 0 بعد نحو نصف ساعة انطفأ أنين جابر الخافت الغريب فاقتربوا منه مرة أخرى وهم يحذرون الجوار من الاقتراب , دنا حامل المشرط وقبض على أنف جابر باصبعيه في غفلة وقد تمكن من الأنف , وبذات السرعة ضرب المشرط نحو الأنف لكن جابرا استطاع أن يبدي حركة غاية في السرعة برأسه في آخر هنيهة مما أدى إلى بتر إبهام حامل المشرط ,وصار الإبهام يتقافز على الأرض والدم ينز منه بغزارة كأنه لن ينقطع , قذف شتيمة في وجه جابر , ثم بصق عليه وراح يهرول نحو البيت , لكنه قبل أن يدخل الباب عاد إلى إصبعه المبتور فحمله في جيبه واتجه جاريا نحو البيت 0
تناول أحد الأخوين المشرط من الأرض ودنا من أنف جابر قائلا بحشرجة : تفعلها بنا إن تركناك بأنف هذا اليوم يا رزيل , مثلك يجب أن يمشي بدون أنف في الشوارع 0 ووقع عليه الأخ الثاني بالضرب وقد امتلأ غضبا بعد بتر إصبع أخيه وراح يمسك بشعره قائلا : سوف تحلم ياجابر أنك كنت ذات يوم بأنف 0 وقبض على أنفه بشراسة وجابر مستسلم من أثر اللكمات التي انهالت عليه , لكنه يحرك رأسه في كل الاتجاهات ويبصق ويشتم ويستغيث , بينما الجوار تجمعوا على شكل تظاهرة يتفرجون عن بعد دون أن يجسر أحد منهم الاقتراب لانقاذ الرجل 0 دس الأخ إصبعيه في خياشيم جابر وكأنه يريد أن يخلع الأنف بيده وأشار لأخيه أن يسدد الضربة بشكل جيد إلى الأنف 0 طمأنه حامل المشرط بثقة وعلامات فوران الدم تتصاعد إلى وجهه المحتقن , وبسرعة خاطفة أوقع الضربة إلى الهدف , ومرة أخرى بدا جابر أكثر حذرا فانتفض هذه المرة بكامل جسده وكأنه بركان صغير انفجر وأبعد القابع عليه جانبا ,فأصاب المشرط جانبا من أنفه وترك فيه خدشا 0 عادا إليه بهزيمة وإصرار أشد وعلى الفور قبض ذات الشخص على الأنف وقد برك على بطن جابر الممدد , دس إصبعيه في ثقبَي الأنف , قبض الثاني بشعره مثبتا الرأس وسدد الضربة ليقع الأنف هذه المرة في يد أخيه 0 أحسا بأنهما نفذا المهمة بصعوبة , تنفسا الصعداء وهما يصوبان نظرات النشوة إلى وجه جابر الذي خلا من الأنف 0 أخذا الأنف معهما وتواريا عن الأنظار 0 في اليوم التالي أبلغت الشرطة مديرية المشفى بأن الموقوفين رموا الأنف المبتور في إحدى المجاري ويتعذر البحث عنه , فاضطر الطبيب الجراح الذي تولى إجراء العملية أن يبتر قطعة لحم من مؤخرة جابر ويلحمها موضع أنفه , بينما جابر تنازل عن ادعائه الشخصي عليهم قائلا : لاشيء في العالم بمقدوره أن يعيد إلي أنفي 0 أمضى شهرا في البيت يتردد من الخروج بلا أنف , وبين يوم وآخر يجري اتصالات بالعمل يقول بأن وضعه النفسي لايسمح له بالخروج من البيت 0 يمضي جابر معظم وقته أمام المرآة يمعن التحديق في القطعة الملحومة فترتسم مؤخرته في وجهه , يزداد استفزازا وغليانا , تتدخل أمه وتبعده عن المرآة قائلة : هذا نصيبك ياجابر , احمد الله أنهم لم يبتروا عضوا أكثر خطورة , كان مستقبلك كله سيضيع في أوقات أخرى يفكر بخطيبته التي خطبها قبل الحادث بشهر على أن يتزوج في ظرف شهرين قادمين عندما يحصل على قرض ولكن المفاجأة وقعت عليه بعد مرور شهر ونصف على الحادث عندما أرسلت خطيبته الخاتم والهدايا إليه مع أخيها ليبلغه كلام أخته: لقد انخدعنا بك ياجابر , لكن حقيقتك بانت في وجهك 00 لاأريد أن أرى وجهك الأسود بعد الآن , العودة من منتصف طريق الهلاك أفضل من الاستمرار 0أراد جابر في تلك اللحظة الفورانية أن ينقض عليه ويقرض أنفه بأسنانه ليصبح زميلا له , بيد أن الكلمات هي التي كانت سباقة : لايشرفني الاقتران بهكذا امرأة تقرر قرارا مصيريا كهذا مستندة على كلمات سمعتها من الناس 0 خرج الأخ وعاد جابر إلى المرآة يحدث نفسه بخفوت : يبدو أن الخسارة لم تكن في الأنف فقط ياصاحبي , هاهو الأنف جر معه الخطيبة التي كنت تمضي معها أجمل الأوقات بعد منتصف الليل على الهاتف , وهل ستنتظر من تفكر بالزواج من رجل بلا أنف , وهل ثمة امرأة بلاأنف في هذا العالم كله لتقبل الاقتران بك 0 لوكان البتر في أي عضو آخر 00 أذنك مثلا , يدك , قدمك , حتى لوفُقأت عين 0 ثم أخذ صوته الغريب يعلو قليلا , هذا الصوت الذي يخيف السامع , حتى أن أمه عندما تسمعه فإنها تخرج من البيت وتقول للجوار بأن كائنا آخر يسكن غبنها ولا يظهر إلا في أوقات الشدة : عندما تخرج ياجابر فان الناس سوف يحدقون بك ويتهامسون , يتغامزون على سبب قطع أنفك , إنه سبب وحيد لاغير يميز كل الذين بُترت آنافهم 0 كيف ستجلس في مجتمع ياجابر وتحكي عن العفة كما كنت تتحدث طوال عمرك 0 بعد مرور شهرين أحس بأن البقاء في البيت يكتم نفسه , وأنه لولم يخرج سيجن , فقرر الخروج على استحياء , ارتدى بدلته الوحيدة ذات السنوات السبع من العمر التي اشتراها عندما قبض أول راتب من مديرية الأوقات الضائعة , عقد ربطة العنق الحمراء الرفيعة وأمسك بمقود دراجته الهوائية , فتح الباب لأول مرة منذ شهرين فجفل وهو يتذكر آخر خروج بذات الطريقة عندما هجم عليه جواره الثلاثة , مد رأسه قبل أن يدفع الدراجة , تأمل الشارع والرعب يسري في عروقه , هل ينتظرون ليقوموا باعتداء آخر عليك ياجابر ؟ إنهم مجانين , كل شيء وارد في هذا العالم ياجابر 0 لم يثن هذا الرعب عزيمة الإصرار على الخروج , فدفع مقود الدراجة إلى الشارع بينما أمه توصيه أن يكون حذرا 0 قاد الدراجة بيديه عدة خطوات دون أن يركبها فنادته أمه أن الإطار الخلفي مفروغ من الهواء 0 عاد بها إلى الباب , أوقفها على الوقافة ومد يده إلى المنفاخ المعلق في موضعه على الدراجة الزرقاء اللون , وضع رأس المنفاخ في موضع الهواء في الإطار وغدا جابر يعلو ويهبط ويلهث وبين لحظة وأخرى يمد يده إلى الإطار ليتفحص حجم الهواء الداخل , وبذات اللحظة تتسرب منه نظرة سفلية خاطفة إلى حيث بيت هؤلاء الثلاثة المقابل , بينما أمه واقفه جواره 0 توقف جابر عن دفع الهواء وقد أدرك كفاية الإطار عن حاجته , ولمح إذذاك خروج الجوار وهم ينظرون إليه يضع لاصقا طبيا على أنفه ويركب الدراجة بدل أن يقودها بيديه , فلم يسبق لأحد أن رأى جابرا يركب الدراجة , إنه دوما يقودها بيديه , يمشي معها كما يمشي مع صديق طريق وهو يدرك بأنه اعتاد هذا الصديق ولايستطيع المشي بدونه حتى لو ذهب لمشوار قصير في زيارة خاصة0 لقد أصبحت جزءا منه وهو لايخرجها ليركبها , بل لتمشي معه , فعندما يقول أي شخص من الجوار : رأيت جابر , سيضيف : يمشي مع دراجته الزرقاء 0 وحتى في حالات السرعة فهو يدفعها بعجالة ويهرول معها 0 عندما مضى جابر راكبا الدراجة وهي ظاهرة غريبة استوقفت الجيران إضافة لمظهر الشاش الطبي على أنفه , تناهى صوت مسموع من أحد أطفال الحي : جابر 00 جابر يسـوق البسكليت بابا 0 فأصبح كل مَنْ في الطريق يصوب إليه نظرات مطولة وهو يمر غير مسلم لأول مرة منذ ثلاثين سنة عندما سكن هذا الحي 0 قال البعض : لاتؤاخذوه ياجماعة , عذره في وجهه 0 وعلّق البعض : قليل الحياء والاحترام , لقد وصل لحقه 0 وقال رجل : أقبّل اليد التي قطعت أنفه 0 واصل جابر طريقه ولم يقف إلا أمام رصيف الدائرة . نزل من دراجته وقادها نحو باب الدائرة لكن الحارس منعه من إدخالها , فقال : أنا جابر خلف 00 موظف هنا 0 فقال الحارس : كنت جابر خلف الموظف هنا 0
أوقف جابر الدراجة على الرصيف , وهم بالخروج , رأى شخصا يجلس على مكتبه , وفي دقائق قليلة اكتظ المكتب بالموظفين والموظفات يتفرجون على جابر مقطوع الأنف 0 فاتجه إلى مكتب المدير مغتاظا يقول بأن الموظفين يسخرون منه , لكن المدير قال بأنه فصل من عمله نتيجة غيابه لمدة شهرين دون عذر , وكذلك لأسباب تمس الأخلاق , لأن الموظف عليه أن يتمتع بأخلاق حميدة 0
خُرج جابر من دائرته مطرودا لايعرف أين يتجه , وقد بدا أمامه الرجوع إلى البيت كالرجوع إلى هاوية 0 عندئذ وقف على الرصيف جوار دراجته وقد مد يده إلى مقودها يسترد وقائع يوم العطلة المشؤوم عندما تفاجأ بجارته خولة تقع عليه في غرفة نومه صباحا 0 انتفض من الفراش قائلا : ما أتى بك هنا ياخولة ؟! 0 قالت وهي تقف في المدخل : لماذا تهرب مني ياجابر , ألستُ جميلة 0
قال : اخرجي , هذا لايجوز , أنا رجل خاطب 0 تأتين لزيارة أمي أهلا وسهلا , أما أن تلعبي بذيلك معي فلا أسمح لك دخول هذا البيت بعد اليوم 0
قالت : بل أدخل هذا البيت من أجل أن أراك وأسمع صوتك ياجابر , أمك هي حجة لأدخل 0
قال : اخرجـي يابنة الحلال , لاأريد أن تدخلي بيتي بعد اليوم 0
قالت مستاءة : لن أخرج وافعل ماشئت 0
وكضربة السوط وقعت كفه على خدها 0 قالت : ستدفع ثمن صفعتك غاليا ياجابر , ستندم طوال عمرك على هذا الصفعة التي صفعتها لخولة , أنا خولة ياجابر, أخت ثلاثة شباب 0 انتفض من خياله وهو يرى خولة أمامه على الرصيف المقابل للدائرة ,قال في نفسه : هل راقبتني عندما خرجت من البيت , وما الذي تريده مني 0 فاشارت خولة إليه ليلحقها , قاد جابر دراجته ومضى وهي تسير بخطوات متسارعة , سار جابر خلفها نحو ساعة إلى أن دخلت حيا شعبيا ووقفت أمام أحد البيوت , تقدم جابر إليها , ولكنه عندذاك اكتشف بأنها ليست خولة 0